رسائل جلالة الملك
د. خالد فتحي
أشر الخطاب الملكي لذكرى ثورة الملك والشعب على اكتمال عملية انبعاث المغرب كقوة ضاربة رئيسية على المستويين الإقليمي والدولي. فالملك الذي اختار هذه المناسبة ذات الرمزية البالغة في الوجدان المغربي لمصارحة شعبه بالتحديات الداخلية والخارجية، ومن ثمة توجيه رسائل في كل الاتجاهات، كان يستلهم هذه الذكرى لأجل شحذ الهمم لثورة ملك وشعب أخرى، ثورة يكون الهدف منها هذه المرة تثبيت المغرب كرقم صعب في المعادلات الجيوستراتيجية القادمة.
ولذلك ظهر جلالة الملك في خطابه ناظما للقواعد الجديدة التي يجب أن تحكم التعامل مع المغرب من طرف الآخرين، إذ لا مجال بعد اليوم لتجريب أي تعنت أو غطرسة أو استعلاء تجاهه، لأنه سيرد الصاع صاعين أيا كانت الجهة التي تستهدفه، فالمغرب اليوم كما يجب أن يعلم أصدقاؤه قبل خصومه هو مغرب العزة والمنعة والندية. لكأنه يقول للمغاربة، ارفعوا رؤوسكم عاليا أيها المغاربة، وافخروا بتاريخكم التليد.. واستعدوا للإقلاع، لقد انتهى للأبد عهد التبعية، فأنتم أحق بالريادة والقيادة، وإنكم لقادرون على مطاولة الجميع من أجل تحقيق مصالحنا الاقتصادية والسياسية والدفاع عن قضايانا المصيرية.
لم ينس جلالة الملك في خطابه أن يحدد مكامن القوة المغربية، التي جعلها في العمق الحضاري للأمة المغربية وفي عراقة ملكيتها المواطنة، وفي الأمن والاستقرار الذي تحظى به البلاد، وأيضا في الحكم الرشيد المبني على مؤسسات ينبغي لها أن تكون ذات مصداقية، لتكون ذات فاعلية وتكون كما نريدها رافعة للتنمية المنشودة. لقد كان الملك وهو يبرز هذه المحددات، يصوغ في الحقيقة للمغاربة وعيهم في هذه اللحظة الفارقة من التاريخ بمقدراتهم وبإمكانياتهم، التي تؤهلهم للوثوب نحو المكانة المتميزة التي تنتظرهم بين مصاف الدول المتقدمة. إنه الوعي التاريخي الضروري الذي تحتاج إليه أمة من الأمم في منعطف ما من مسيرتها، لاتخاذ قرار جماعي بالصعود نحو القمة، إذ لا يكفي امتلاك مقومات النجاح، بل يجب التوفر على إرادة النجاح، مثل هذا القرار وهذه الإرادة لا يتحصلان في الحالة المغربية إلا بانصهار الشعب أكثر مع ملكيته المواطنة، خصوصا في هذا الظرف العصيب الذي يشن فيه كورونا حربا على المغرب وعلى العالم، ولذلك على المغاربة أن يتعرفوا على أسباب قوتهم حتى يهرعوا إليها في الشدائد، ليدحضوا مخططات الخصوم وينجوا من الدسائس والمؤامرات التي تحاك ضد الدول في الكواليس وفي الغرف والأقبية المظلمة. لذلك كانت أزمة الكركرات، وأزمة استقبال رئيس جمهورية الوهم بإسبانيا، وكان التكالب الألماني المفضوح ضد الوحدة الترابية المغربية، وافتئات بعض المنظمات الدولية على المغرب وسمعته، ثم بيغاسوس التي استهدفت جهاز المخابرات المغربي مثل زوبعة في فنجان.. كل هذه المناورات كانت محاولات فاشلة لعرقلة المغرب، وهو في الأمتار الأخيرة لأجل احتلال مقعده بين الكبار. ولقد فشلت بالتأكيد، لأن الانطلاقة المغربية هي انطلاقة حقيقية تم الإعداد لها بصبر وتخطيط وبعد نظر وعلى أسس صلبة. لقد كانت الاختبارات التي تسبق عادة الاعتراف والترسيم كفاعل دولي، هذا ما تعيه الدولة المغربية جيدا، وهو الوعي الذي يسعى الملك إلى إشاعته بين أفراد الشعب حتى لا يلتبس عليهم الخصوم والأصدقاء، وحتى تظل البلاد صفا متراصا وسدا منيعا ضد المؤامرات وهي تعد السير نحو التقدم والرفعة.
لا يستطيع المغرب أن يكون دولة دون دور جهوي ودولي، فهو مطوق برسالته الحضارية التي جعلت منه دائما عبر التاريخ أمة لها إرادة لكي تكون دولة عظمى، وذات تأثير في المحيط المتوسطي والأوروبي والإفريقي والعربي والدولي .
لن يلقي المغرب بالا لمناوشات نظام الجار الشرقي، الذي يصر على البقاء عند مرحلة متجاوزة من التاريخ يجتر مواقف عفا عليها الزمن، ولن يلتفت أيضا إلى جيرانه الأوروبيين الذين ما زالوا يعانون من عقدة التفوق البائدة، التي لا تجعلهم يفركون أعينهم ليبصروا هذا المغرب العملاق، الذي يتمخض أمام ناظريهم ويتبينوا هول التأخر فيهم الذي عرت عنه الأزمة الصحية.
لذلك يمكن اعتبار خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب لهذه السنة، خطابا مؤسسا منتزعا للموقع المغربي في المضمار الجهوي والدولي. خطابا يعيد المغرب لما هو منذور له: الريادة ولا شيء غير الريادة. فالمغرب كان في فترات طويلة من تاريخه جزءا من النظام العالمي، حيث كان ملوكه وإمبراطورياته يجسدون لقرون محور الغرب الإسلامي، وكانوا يعتبرون قيادة روحية لإفريقيا. وكل ما يحاك حولنا الآن هو لإضعاف ثقتنا بأنفسنا وحصرنا في الزاوية الضيقة، لكن المغرب كما نفهم من خطاب جلالة الملك قادم، بل هو حاضر من خلال قوته الناعمة متعددة الأشكال، التي لا تقاوم في إفريقيا أحب من أحب ذلك وكرهه من كرهه، لسبب بسيط هو أن التاريخ يعيد نفسه وأن إفريقيا هي من تريد ذلك.